في صباح يوم السبت من عام 1932 في مركز القطاع المالي في تورونتو، في مقر أحد البنوك ظهر موظف خلف الأبواب المغلقة حاملاً لافتة كتب عليها: "البنك مغلق، تم تعليق الدفع ". تم تثبيت هذه اللافتة على أبواب المبنى الخشبية الفخمة معلنةً موت إحدى أكبر المؤسسات المالية الكندية.
أدى انهيار البنك الكندي الوطني"Home Bank of Canada"قبل 100 عام إلى أزمة مصرفية على الصعيد المحلي وهي مشابهة إلى حد غريب بما يحدث اليوم.
حيث واجه عشرات الآلاف من المودعين خسارة مدخراتهم، ما أثار جدلاً حول كمية الودائع المصرفية التي يجب ضمانها على المستوى الفيدرالي. ومع ظهور تضارب في آلية الإقراض مع سوء الإدارة وغياب الرقابة، أصيب الكنديون بالذعر واهتزت ثقتهم بالنظام المالي، بينما حاولت البنوك الأخرى العمل على تجنب استمرار سحب المودعين للودائع.
بعد قرن من التطور المالي والتكنولوجي، لا يزال النظام المصرفي في حالة عدم استقرار إلى حد كبير كما حدث في ذلك الوقت. ولا تزال التداعيات المالية لإفلاس بنك وادي السيليكون جارية، حيث تعهدت وزيرة الخزانة الأمريكية " Janet Yellen " يوم الثلاثاء بحماية البنوك الصغيرة إذا لزم الأمر. حيث يواجه المسؤولون الأمريكيون مجموعة الأسئلة القديمة:
كيف يمكن أن تتكرر مثل هذه المشاكل مرة أخرى؟
كيف نوقف تأثير الدومينو لانهيارات البنوك من تهديد استقرار النظام المالي بأكمله؟
هنا تختلف الأنظمة المالية الكندية عن الأمريكية، حيث قامت كندا بشكل أو بآخر بحل هذه الأسئلة منذ عقود. أسس إقفال "Home Bank of Canada" السمات الرئيسية للنظام المصرفي الكندي الحديث، بما في ذلك تأمين الودائع والرقابة التنظيمية الفيدرالية وبناء نظاميرتكز على مجموعة من البنوك الكبرى. لقد أثبت النظام المصرفي الكندي أنه هيكل متين، فقد كان "Home Bank of Canada" هو آخر بنك معتمد كبير يقفل في كندا.
في تلك الفترة الصعبة كانت الخدمات المصرفية تنظم بشكل خفيف جداً في كندا بسبب انتشار حالات الإقفال، حيث بلغت نسبة البنوك الفيدرالية التي أقفلت أبوابها في كندا حوالي 36% منذ قيام الاتحاد حتى عام 1914. ما حدث مع بنك"Home Bank of Canada" كان نقطة تحول وانهياره كان كارثياً لدرجة أن شجع الحكومة الكندية للتحرك قُدماً.
في عام 1932، لم يكن هناك مفهوم التأمين على الودائع، فبعد إغلاق شبكة فروع بنك"Home Bank of Canada” التي تمتد لأكثر من 70فرع من كيبيك إلى كولومبيا البريطانية، تم خسارة مدخرات 60 ألف من المودعين. أوصت لجنة برلمانية تم وضعها لدراسة أسباب الفشل بمساندة حكومية للمودعين في البنوك المعتمدة بقيمة تصل إلى 3000 دولار، ولكن تم رفض هذا الاقتراح حيث شعرت الحكومة أنه من الأفضل ترك آلية تنظيم البنوك للبنوك نفسها.
بدلاً من ذلك، أنشأت الحكومة "مكتب المفتش العام للبنوك" وهو المسمى السابق لمكتب المشرف على المؤسسات المالية حالياً المسؤول عن ضمان عمل النظام المصرفي بسلاسة. في الأسبوع الماضي تصدرت أخبار مكتب المشرف على المؤسسات المالية“OSFI” عناوين الصحف عندما قام بالسيطرة على العمليات المالية لفرع بنك وادي السيليكون في كندا، كما بدأ في المراقبة اليومية للسيولة المصرفية بحثاً عن أي علامات للانهيار المبكرة، وذلك وفقاً لتقرير (The Globe and Mail).
لم يدخل تأمين الودائع حيز التنفيذ في كندا حتى الستينيات، حيث أدت سلسلة من الفضائح المتعلقة بشركات الرهن العقاري وشركات الإقراض إلى دفع الحكومة الفيدرالية للتحكم والإشراف على جميع مستويات العمل المصرفي، في حين قاومت المقاطعات قرار الحكومة ورفضت التنازل عن سلطتها. وبحسب "Trevor Tombe" أستاذ الاقتصاد بجامعة Calgary، تم استخدام التأمين على الودائع مثل مفهوم "العصا والجزرة"، هذا يعني إن أردت الحصول على هذا التأمين عليك أن تخضع نفسك لقليل من الإشراف.
يمكن تشبيه التأمين على الودائع مثل "مطفأة الحريق" لا تستخدمها الناس حتى يروا الدخان، أي عدم التركيز على الخطط الأقل احتمالية ولكن الأكثر أهمية. عندما دخل بنك وادي السيليكون في دوامة الانهيار قبل أسبوعين، حاولت الحكومة الأمريكية بسرعة تأمين جميع ودائع البنك حتى تلك التي تزيد عن الحد الأقصى البالغ 250 ألف دولار أمريكي. أما الآن هناك مناقشات حول إلغاء هذا الحد تماماً وضمان الحفاظ على جميع ودائع الدولة، حيث يمتلك بنك وادي السيليكون ودائع غير مؤمن عليها هي التي ساعدت في إدارة البنك في المقام الأول.
تتم حماية الودائع في البنوك الكندية حتى حد 100 ألف دولار ولكن يمكن تغيير هذا الحد في حال حدوث انهيارات متتالية. وقال “Cristian Bravo Roman” رئيس مركز الأبحاث الكندية في تحليلات البنوك والتأمين في جامعة Western: "إن التأمين غير المحدود على الودائع أمر منطقي من أجل طمأنة المودعين، خاصة الآن بعد أن دخلت التكنولوجيا حيث تداول النقود آخذ في الانخفاض، إن الناس بحاجة لمعرفة أن أموالهم آمنة."
الجانب السلبي هو أن أي إجراء يسهل السداد للمودعين قد يخفف من حماية البنوك لأنفسها من أي مخاطر، هذا هو النقاش الدائر في الكونجرس الأمريكي. عندما يتم إدارة البنوك بشكل جيد فإن التأمين على الودائع يعد أداة حاسمة في منع انتشار الانهيارات المالية.
لكن هذا وحده لا يمكن اعتباره السبب الوحيد لمرور قرن كامل من الاستقرار في البنوك الكندية خاصة عند المقارنة مع الولايات المتحدة. حيث يبدو أن الأزمة المصرفية في الولايات المتحدة هي حقيقة لا مفر منها تحدث كل عقد من الزمن، فمنذ عام 2001 فشل ما مجموعه 563 بنك أمريكي بأصولٍ قد تزيد عن تريليون دولار أمريكي، وذلك وفقاً لمؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية الأمريكية. في المقابل لم تفشل أي بنوك كندية خلال نفس الفترة الزمنية.
النظام المالي في الولايات المتحدة عبارة عن سوق واسع لآلاف من وحدات البنوك التي تعمل تحت هيئات تنظيمية متنافسة تحت سيطرة اللوائح الفيدرالية والخاصة بكل ولاية بدرجات متفاوتة من القوانين الصارمة.
في أوائل القرن العشرين اتخذت كندا مسار مختلف تماماً، حيث أثبت الإشراف على البنوك الوطنية الكبيرة التي لها شبكات وفروع منتشرة في جميع أنحاء البلاد وإتباعها لجهة تنظيمية واحدة سيجعلها أقل عرضة للأزمات، فقد استطاع القطاع اجتياز الأزمة المالية العالمية 2007-2008بسهولة نسبية. في الواقع، على الرغم من إغلاق بنكين إقليميين صغيرين في مقاطعة ألبرتا في عام 1985، إلا أن كندا لم تتعرض لأي انهيارات مصرفية منذ انهيار بنك "Home Bank of Canada” قبل 100 عام، وهي الفضيحة التي أسست النظام المصرفي الذي لدينا اليوم.